كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أطلقت الآية إطعام المساكين، ولم تقيده بقدر ولا تتابع، فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك جاز، وكان ممتثلا لأمر اللّه تعالى، وهذا قول الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين، وليس معنى هذا أن تمليك المساكين لا يجزئ، بل المراد أنّ الآية أمرت بالإطعام الذي هو حقيقة في إعطاء الطعام، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة، فأيهما وقع من المكفر أجزأه.
وأوجب الشافعية تمليكهم، قالوا: نحن لا ننكر أنّ الآية تحتمل التمليك والإباحة، إلا أنّ السنة وردت بالتمليك، وجرى عرف الشرع في الصدقة الواجبة أنّها مقدرة مشروط فيها التمليك، فكما أنّ الزكاة وصدقة الفطر لابد فيهما من التمليك، كذلك الكفارة لابد فيها من التمليك، ولا تجزئ فيها الإباحة. وذلك لأن التمليك أدفع للحاجة، فلا تقوم مقامه الإباحة.
ثم اختلفت المذاهب في المقدار الذي يملّك لكل مسكين. فقال الحنفية: يعطى لكل مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير أو تمر، ومستندهم في ذلك أخبار ذكرها صاحب (فتح القدير).
وقال الشافعية: لكل مسكين مدّ من غالب قوت محل المكفّر، لأنّه صحّ في رواية عنه صلى الله عليه وسلم تقدير الكفارة بستين مدا، وصحّ في رواية أخرى تقديرها بستين صاعا، والنسخ هنا متعذّر للجهل بالتاريخ، ولإمكان الجمع بين الروايتين، فكان ذلك الجمع متعينا، فحملت رواية الستين صاعا على بيان الجواز الصادق بالندب.
ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان، وقيل: مد وثلثا مد، وقيل: ما يشبع من غير تحديد.
وظاهر قوله تعالى: {فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} أنّه لابد من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد. هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه.
والثانية إن وجد غيره لم يجزئه، وإن لم يجد غيره أجزأه. وهو ظاهر مذهبه.
والثالثة: أنّ الواجب إطعام طعام ستين مسكينا، ولو لواحد في ستين يوما.
وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه.
قالوا: لأنّ المقصود سدّ خلة المحتاج، والحاجة تتجدد كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إلى غيره، وكالدفع إليه في اليوم الأول، وأنت تعلم أنّ الآية نصّت على ستين مسكينا، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا، فكان التعليل بأنّ المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النصّ فلا يجوز.
ألا ترى الحنفية حين قالوا: لا يجزئ الدفع لمسكين واحد طعام ستين دفعة واحدة، علّلوا ذلك بأنّ التفريق واجب بالنص، مع أنّ تفريق الدفع غير مصرّح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين، فالنص على العدد أولى بالاعتبار، لأنّه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنّه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما، فكان تعدّدا حكما. وحينئذ يلزم أنّ يكون المراد بالستين مسكينا في الآية مسكينا حقيقة أو حكما، من باب عموم المجاز الذي يشمل تعدد المساكين حقيقة، وتعددهم حكما، فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين مسكينا، أو حاجات واحد في ستين يوما. ولا يخفى أنّه لا مقتضى للعدول عن الحقيقة إلى هذا المجاز، وأن ظاهر الآية إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين، وتعدد الذوات مما يصح أن يكون مقصودا معقول المعنى لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة، وشمول المنفعة، واجتماع القلوب على المحبة والدعاء.
وظاهر الاقتصار في الآية على المساكين أنّه لا يجزئ دفع الكفارة إلّا إلى المساكين، ويدخل فيهم الفقراء، كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق.
وقد قالوا: كما علمت المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، هذا مذهب الجمهور.
وعمّم أصحاب أحمد وغيرهم الحكم في كلّ من يأخذ من الزكاة لحاجته، وهم الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب، ولكنّ ظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين على ما علمت.
وقد أطلقت الآية المسكين هنا، ولكنّ الفقهاء شرطوا فيه اعتبارا بمسكين الزكاة ألّا يكون ممن تلزم المكفر نفقته، وألا يكون هاشميا ولا مطلبيا ولا كافرا على خلاف في ذلك بين الفقهاء، منشؤه اختلاف أقوالهم في مسكين الزكاة.
واستنبط بعض الشافعية من التعبير في جانب تحرير الرقبة بعدم الوجود، وفي جانب الصيام بعدم الاستطاعة، أنّه لو كان له مال غائب ينتظره ليعتق منه ولا يصوم، ولو كان مريضا يرجى برؤه، ولكنه يدوم في ظنه مدة شهرين يطعم، ولا ينتظر البرء ليصوم، ووافقهم الحنفية في عدم الصوم لا في الإطعام.
ثمّ إنّ اللّه سبحانه قيّد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام، وأطلقه في الإطعام، فكان ذلك ظاهرا في أنّه لو وطئ قبل الإطعام أو في خلاله لم يأثم، ولا يستأنف، ونقل عن هذا بعض الناس عن أبي حنيفة، ولكنّه توهم، والذي عليه المعول عنده رحمه اللّه أنّه يأثم، ولا يستأنف الإطعام، وبهذا قال جمهور الفقهاء.
أما عدم استئناف الإطعام فوجهه ظاهر، وأما حرمة الوطء فدليل الفقهاء عليها مختلف بحسب اختلافهم في قواعد الأصول، فمن يرى حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة يقول: استفيد حكم ما أطلقه اللّه مما قيّده، إما بيانا، وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين، فإنّ المعروف عن الشرع في الأعم الأغلب ألا يفرّق بين المتماثلين، وقد ذكر اللّه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا مرتين، ونبّه بذلك على تكرّر حكمه في الكفارات الثلاث، ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه بالإطعام، ولو ذكره في أول مرة فقط لأوهم اختصاصه بالعتق، وإعادته في كل مرة تطويل، فكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما جاء به النظم الجليل.
وأيضا فإنّه نبه بوجوب التكفير قبل المسيس في الصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى المسيس فيه، على أن اشتراط تقدم الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى.
على أنّ قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الحسن. وقد تقدّم: «اعتزلها حتّى تكفّر عنك»
يشمل التكفير بالإطعام.
وأما الحنفية الذين لا يرون حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة، فلهم على حرمة الوطء قبل الإطعام دليلان.
الأول: أنّ إباحة الوطء قبل الإطعام قد تفضي إلى الممتنع، والمفضي إلى الممتنع ممتنع، بيان ذلك: أنّه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه، فلو أبيح للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام ثم اتفق أنّه قدر على العتق فوجب التكفير به، لزم أن يقع العتق بعد التماس، وهو ممتنع.
واعترض على هذا الدليل بأنّ القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، والأمور الموهومة لا تراعى في إثبات الأحكام ابتداء، بل غايتها أن تراعى في ثبوت الاستحباب ورعا.
والدليل الثاني: ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «اعتزلها حتى تكفّر».
وقد يقال: إن هذا الحديث ليس نصا في الموضوع، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك للمظاهر قبل أن يتبين عجزه عن الإعتاق والصوم، فجاز أن يراد اعتزلها حتى تكفّر بالعتق، أو حتّى تكفّر بالصوم.
بقي أن يقال: لم تذكر الآية حكم من عجز عن الخصال الثلاث، أتسقط الكفارة عنه أم تستقر في ذمته ويحرم عليه المسيس حتى يكفر؟
والذي استظهره العلماء أنّها لا تسقط، بل تستقر في ذمته، حتى يتمكن، قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات، كجزاء الصيد وغيره. ولأنّ أصحاب السنن رووا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعان أوس بن الصامت بعذق من تمر، وأعانته زوجته بمثله فكفّر، وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفّر بها عن نفسه، ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها.
وقد أطلنا هنا بذكر الفروع، لأننا نراها كلها متعلقة بتفسير الآية، واللّه الموفق.
{ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الإشارة إلى ما سبق من البيان وتفصيل الأحكام، وتعليمهم إياها. أي ذلك الذي بيّنا فيما مرّ واقع وحاصل لتؤمنوا باللّه ورسوله، وتعملوا بما شرع لكم، وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي الأحكام المذكورة حدود اللّه فالزموها، وقفوا عندها لا تتعدوها {وَلِلْكافِرِينَ} الذين يتعدونها {عَذابٌ أَلِيمٌ} على كفرهم. وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا، نظير قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} [آل عمران: 97].
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}.
التناجي: التسار والمناجاة المسارّة. مأخوذ من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض، وسمّيت بذلك، لأن المتسارين يكونان بخلوة في نجوة من الأرض، بعيدا عن المتسمعين، أو سمّيت بذلك لأنّ السرّ يصان، فكأنه ارتفع عن الناس، ومن هذا قال الشاعر:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ** على سرّ بعض غير أني جماعها

يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم ** إلى صخرة أعيا الرّجال انصداعها

وقيل: إنّ التناجي من المناجاة، وهي الخلاص، وكأنّ المتناجيين يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر.
والآية التي معنا خطاب المؤمنين، وأريد من النهي هنا التعريض بأولئك الذين كانوا يدورون في المجالس يشيعون السوء ويتناقلونه، حتى يؤثّر ذلك في أقارب الغائبين في الغزو من المؤمنين الخلص، فكانوا يقولون: تم كيت وكيت، فكانت تنخلع قلوب أقارب المؤمنين من سوء ما يشاع عن أهليهم، وكان يكاد يؤثّر ذلك فيهم لولا أن الكذب حبله غير طويل، فلم يلبث الغائبون أن يعودوا منصورين على خير ما يكون النصر، ويفتضح أمر أولئك الذين لا تخلو منهم أمة، أولئك دعاة التردد والهزيمة، ضعفاء النفوس، لا تقوى نفوسهم على مجالدة أعدائهم، فيلجؤون إلى مقالة السوء يرددونها، يرجون من وراء ذلك الفتّ في عضد خصومهم، ولقد كان اليهود والمنافقون يلجأون إلى هذه الحال دائما، فكانوا يتناجون دون المؤمنين.
وكلّما مروا بهم يتغامزون، فلما كثر ذلك، شكا منهم المؤمنون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك، ولكن الضعيف دائما يجد في هذا التناجي سلوة يستر بها ضعفه، فلم ينتهوا، فأنزل اللّه فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاءُوكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ}.
وكانت هذه الحال حالا ذميمة مؤذية، فنهى المؤمنين أن يفعلوا هذا، فيكون فيهم هذا الصنف من الناس، فهم لم يكن منهم هذا التناجي المذموم حتى ينهوا عنه، إنما نهوا عنه تعريضا بأولئك الذين لا يعيشون إلّا في الظلام، ويصطادون في الماء العكر، أرأيت الآية التي سقنا لك فيهم، وهذا الآية كيف نهي المؤمنون فيها أن يتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي كان منهم، ثم هو تحذير للمؤمنين أن يفعلوا فعلهم، فيستحقوا ما استحق أولئك من العاقبة.
وقيل: بل الخطاب للمنافقين، وسمّاهم مؤمنين باعتبار ثوبهم الذي يظهرون فيه، والظاهر الأول، فإنّ الآية نهت المؤمنين أن يتناجوا بالإثم والعدوان، أي بما هو إثم في ذاته، ثم هو عدوان على منصب الرسالة، إذ يجعل الناس ينفضّون من حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أمرتهم إذا كان لابد لهم من التناجي أن يتناجوا بما هو برّ وخير، وبما هو وقاية لهم، وحفظ من عذاب اللّه، ثم أمرتهم بأن يتقوا اللّه الذي إليه يحشرون، فيحاسبهم على ما كان منهم بعد أن يطلعهم عليه، لا تخفى عليه منه خافية، ثم قال اللّه في تعليل ما تقدّم {إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}.